الرئيسة \  واحة اللقاء  \   2018، سنة السنوات العربية المظلمة

 2018، سنة السنوات العربية المظلمة

03.01.2019
واسيني الأعرج


 
 القدس العربي
الاربعاء ٢/١/٢٠١٩
لم أتمنّ في حياتي لسنة أن ترحل بسرعة مثل هذه السنة، سنة الخراب واليأس وموتى الحروب والصحافيين المقتولين، سنة أخرى تمضي ولا شيء عربياً في الأفق، خيبات متواترة وزحف دائم نحو قبر النهايات. الآخرون يصنعون أمجاد شعوبهم، والعرب يواصلون حفر قبورهم بأيديهم، ويقتلون علماءهم وصحافييهم ومفكريهم، ويمدون يد العون لقاتليهم وقاتلي مستقبل شعوبهم. حروب بينية تتوالد بسرعة النار.. بلدان تتشظى مثل القنابل الموقوتة.. ودم عربي يسيح بشكل لم يعد يثير انتباه حتى نشرات الأخبار الثانوية. انسحب داعش كما قُرر له، لكنه يلتصق كالعقرب البحري بالمخ الذي أنتجه، وباليد المتطورة التي فبركته خصيصاً لنا، وبأموالنا الطائلة المائلة لمن يصنع ظلامنا. مثل القاعدة، انسحب داعش لينام في كتاب الموت، في انتظار تجديده. لقد عرف أعداؤنا أن ضعفنا الكبير في ديننا الذي أرادوه لنا، ويعاد تصنيعه وفق الحاجة. فقد زكينا بأموالنا كل شيء يقودنا نحو الحروب الهالكة، وظلام التوحش والخسارات، ويجعل منا أعداء ثابتين للحداثة والعلم والتنور والنقد والاختلاف والحرية، لدرجة أن العالم العربي أصبح وطناً مستباحاً. فقد زرعت في الجسد العربي المريض والمتهالك كل أنواع الألغام التي يمكن أن تحوله إلى برك من الدم أو إلى رماد في زمن محسوب. كل تنوعاته أصبحت أمراضاً مستعصية.. ديانات متعادية.. إثنيات لا تتحمل بعضها.. لغات متنافرة.. حقوق دنيا للكيان البشري مداسة.
داعش ليس كيانات خارجية، إنما كيانات تكونت فينا عبر القرون، وشربناها في حليب الطفولة والنظم التربوية التي جعلتنا نخسر الماضي ونرهن الحاضر.
هل في إمكان العرب في السنة الجديدة خلق نموذجية تنتصر للعلم وللتعددية ولقبول الآخر المختلف، وتربي النشء على العلم والنقد، وعلى دين للحب والتبصر، لا على دين الحروب والعداوات والضغائن. كم نحن اليوم بحاجة إلى هذا التسامح أكثر من غيرنا؟ هل كان النفط نعمة على العرب؟ لقد قفز بهم من عصر الجمل إلى الصاروخ. لكن هل نقل العقل من منطق الرمل إلى منطق الماء؟ تلك هي المعضلة. لا يزال العاشق يرجم، والمحب يعزل، والعالم ينفى، والعاقل يُجنّن قبل أن يموت في العزلة. ما تزال المرأة عورة والاختلاف نقمة. ألم ندرك بعد أن عمر النفط معدود في الزمان والمكان ويأتي يوم تجف فيه الأرض نهائياً، فماذا بنينا استراتيجياً لمواجهة عالم شرس يوم ترتسم ملامحه بوضوح، اليوم؟ لا شيء؟ من لا يستطيع حماية نفسه سيظل تحت سلطان غيره. وهل الغير يحمينا خارج نفطنا؟ الحماية ليست خياراً ولكنها ضرورة. هذا ما أدركته كل أمم العالم التي طورت وسائل حماية نفسها. مستباحون اليوم أكثر من أي زمن مضى. بصاروخ واحد على منشآتنا الحيوية يمكنه أن يقتلنا عطشاً أو يعيدنا إلى البدائية الأولى. انهيار أسعار النفط وضع الدول العربية كلها، التي تعيش على الريع النفطي في حالة غير مسبوقة من الخطر الاجتماعي وينبئ بهزات عنيفة ستأتي على ما بقي واقفاً من البلدان العربية التي أصابتها عدوى الفوضى الخلاقة، مثل الوباء، لدرجة إبادة كل حياة وأفق فيها. التقشف الإجباري سيدفع بها إلى مواجهة هزات اجتماعية شديدة الخطورة في السنوات القليلة القادمة قد تكسر كيان الدولة القائم، أو تنهكه فتجعله أكثر هشاشة. هش لأنه يسير بإرادة الفرد، وعندما يسقط الفرد تنتفي الدولة. يغيب نهائياً شيء اسمه وطن.
سنة أخرى تمضي ولا شيء عربياً في الأفق. سنة تختصر أكثر الآمال وتدفع بقوة الأمراض المتراكمة في الجسد العربي نحو المزيد من المهالك والمجاهيل التي تلوح في الأفق. لم تكن هذه السنة التي ستنسحب بعد ساعات، برداً وسلاماً على العالم العربي. فقد استمرت البلدان العربية في المزيد من التمزق والتحلل على الرغم من بارقات الأمل الصغيرة هنا وهناك. حريق آخر يشب في تونس قد ينذر بقادم شديد الغموض، ينتظر سدنة الدين السياسي فرصتهم للانقضاض على ما تبقى من فرح ضئيل. العراق الذي بدأ الأمل يسكنه، ما يزال تحت الاحتلال الأمريكي الذي يحكم اقتصاده وأمنه ودينه وطوائفه. لم يقم من التدمير الأمريكي المنظم ومن حربين خليجيتين لم تورثا إلا الدمار والصراعات الداخلية الكامنة منذ زمن بعيد. بينما ليبيا نسيت نهائياً، ونسي شعبها وتمزقاته ولم ينس نفطها الذي يباع في البحار بأبخس الأثمان، تستفيد منه العصابات البحرية المتحكمة في السوق النفطية السوداء، وليس الشعب. انتفى حتى هدف الثورة الأسمى لتغيير نظام رعوي، بلا قانون، في اتجاه دولة معاصرة وجديدة سيدتها العدالة والحق والتداول على السلطة. سوريا التي تشهد حلحلة شكلية في وضعها، تحتاج إلى نصف قرن من السلام لرتق بعض جراحاتها. كل يوم يتسع تمزقها، وتكبر آلامها بلا أفق حقيقي، وعلينا أن نقبل بسوريا أخرى تخرج اليوم من عمق الرماد. اليمن السعيد فقد سعادته منذ أن سرق الحوثيون منه حقه في الحياة الحرة، ونهبت منه الحسابات السياسوية السلام، وأدخِل في حرب لم تكن حربه، ولم يكن مهيأ لها، حرب يموت فيها الناس وهم نيام في بيوتهم، أما آن لهذه الحرب أن تتوقف؟
التقسيمات العربية التي ارتسمت في الأفق شيئاً فشيئاً أصبحت اليوم، مع مرور الوقت وانهيار كل المشاريع العربية السياسية والتنموية، حقيقة تتجسد على الأرض في كل ثانية، ونار الحرب أكلت الأخضر واليابس، وتأكل الآن اليابس واليابس. ومهما كانت مبررات هذه الحروب فالشعوب العربية تستحق أقداراً أفضل من هذا الرماد. مصر التي كانت دائماً الرائدة في التحولات العربية الكبرى، لم تشذ عن القاعدة العربية العامة، فقد شهدت تفشي ظاهرة العنف السياسي الذي بدأ يتحول إلى حالة اعتيادية في المشهد اليومي الذي يمكنه أن يصبح خطيراً على كيان الدولة نفسه. ربما كان الخاسر الأكبر في عمليات التدمير العربي الشامل هي فلسطين. تمدد المستوطنات في الضفة الغربية.. وسرقة القدس علانية بعد أن تم تطويقها من كل الجهات بالمستوطنات. وفي كل الحالات، يدفع العرب الفاتورة بقسوة، بشرياً ومادياً أيضاً، وكأن الثورات العربية التي سرق بريقها وهدفها العميق لم تكن إلا استراحات دموية قبل أن تعود الأوضاع الاجتماعية والسياسية إلى ما كانت عليه نسبياً لشيء جديد هو تدمير العرب بنائياً ومالياً وإغراقهم في حروب المستفيد الأول والأخير هو اللوبي العسكري الأمريكي والصهيونية، الوكيل الشرعي لحماية أمن إسرائيل. ويحتاج النظام العربي اليوم، في عمومه، إلى حل مشكلتين كبريين: الحل الديمقراطي- الاجتماعي، وموقعة الدين في الجسد العربي المريض. بــــدون ذلك لن تكون الآفاق إلا مظلمة عربياً، ولن تكون سنة 2019 إلا سنة أخرى لاستكمال تدمير الكيان العربي كلياً وتحويل كل أحلامه إلى غبار ورماد سيطمس ما تبقى من بصيص أمل قليل.